المرأة بين سبية حرب ورائدة فضاء


المرأة بين سبية حرب ورائدة فضاء


تناقض صارخ يعتري المشهد النسائي في عالم اليوم. فوسائل الإعلام تكشف لنا يوميا عن عشرات الرائدات في مختلف مجالات العلم التجريبي والطب والفكر والفضاء والتقنية وغيرها. سيدات أثبتن بما لا يدع مجالا للشك بأن المرأة متى ما منحت الفرص والحقوق المساوية للرجل فإنها قادرة على التفوق النوعي والكمي في مختلف الميادين التي كانت إلى عقود قليلة سابقة حصرا على الرجال. ولم تعد مشاركة النساء في مختلف ميادين التقدم البشري أمرا غريبا أو مثيرا للتعجب كما كانت في بدايات القرن الماضي.

إلا أنه في مقابل هذا المشهد الجميل لتطور المجتمع البشري هناك مشاهد أخرى مؤلمة تنقلها لنا نشرات الاخبار بصورة شبه يومية.  مشاهد دموية مؤلمة تكون فيها المرأة الحلقة الأضعف والأكثر اضطهادا، ما بين ثكالى صراعات ومغتصبات معارك وسبايا حروب.  مشهد لا يرى في المرأة سوى جسد مستباح لتصفية حسابات عقدية وأيدلوجية.  فهي إما ضحية مستهدفة لهتك انسانيتها وكرامتها بهدف اذلال العدو وكسر معنوياته وإرهاب مجتمعاته؛ أو في أحسن الحالات أداة لمتعة وراحة الرجال المقاتلين تحت مسميات تبريرية كجهاد النكاح وغيرها من افرازات عقول ذكورية لا ترى للمرأة دورا ولا مكانة إلا امتاع الرجل وتفريخ أبنائه.

مشهدان متناقضان ومتباينان وكأنهما ينتميان لعصرين متباينين وزمنين متباعدين.  عصر يحاول أن ينظر إلى الانسان من خلال عطائه ومشاركته في بناء المجتمع والعالم بغض النظر عن اختلافات العرق واللون والجنس.  وعصر يرى كمال أهلية الانسان في كونه ذكرا. فيقسم البشر بين رجال يعملون لبناء مجتمعاتهم ونساء أقل مرتبه وفكرا خلقن من أجل راحة القسم الأول وتوفير البيئة التي تساعده على الاستمرار.  

البعض (وربما الكثير) يحاول أن يفسر ويبرر هذا التناقض الصريح بين مكانة المرأة ودورها في المشهدين بأنه نتاج ما تعانيه الكثير من دول ومجتمعات العالم من فقرٍ وجهلٍ وانتشارٍ للأمية، وحصيلة افرازات مؤامرات استعمارية حديثة للعبة سياسية لا تعترف بالقيم الأخلاقية، ضمن صراع الوجود بين الشرق والغرب أو الشمال والجنوب.

لا شك بأن الكثير من هذه المبررات تلعب أدوارا بارزة في أية ظاهرة سلبية في عالم اليوم، إذ لا يمكن انكار أن الجهل والفقر وغياب العدالة الاجتماعية عدو الانسان والتقدم البشري عموما وتقدم المرأة على وجه الخصوص في كل زمان ومكان؛ إلا أن معطيات أحداث السنوات الأخيرة قلبت الموازين وعكست بعض التبريرات رأساً على عقب.

فتطور وتميز المرأة في مختلف ميادين الحياة لم يعد حصرا على الغرب المتقدم علميا والمزدهر ماديا؛ وجوائز التفوق والابداع والابتكار لم تعد حكرا على الدول الأكثر تقدما وثراء. فالكثير من الدول التي تعاني من الفقر وانخفاض معدلات التقدم والتعليم نجحت في تقديم نماذج نسائية مشرّفة تركت بصماتها الواضحة محليا وعالميا. قد تكون الطموحات أكثر بكثير مما تحقق، إلا أن مؤشرات التنمية النسائية واضحة في قوسها الصاعد.  وأصوات الملايين من نساء ورجال العالم النامي المطالبة بضرورة احترام مكانة وكرامة المرأة ومنحها فرصا وحقوقا مساوية للرجل لتتمكن من لعب دور أكثر تأثيرا وإيجابية في بناء المجتمعات – أصبح جزءاً أساسيا من المشهد التنموي في هذه الدول، بل ونجحت هذه الاصوات في فرض التحول التدريجي ليس على المستوى التشريعي والقانوني فحسب بل وعلى المستوى الاجتماعي والثقافي أيضا، وهو الأهم.

وفي المقابل وعلى النقيض من هذه الحالة نجد أعدادا متزايدة من أبناء المجتمعات الأكثر ثراء ورخاء والمجتمعات الأكثر تطورا وتقدما يميلون (نساء ورجالا) بمحض ارادتهم تجاه تحجيم دور المرأة وتقبّـل أفكار وترتيبات اجتماعية تعيد المرأة إلى عصور ماضية لتكون انسانة من الدرجة الثانية غاية آمالها أداء دور تكميلي يعزز تفوق الرجل ويشبع هيمنته ورغباته.

ما الذي يجعل سيدة في قرية نائية في بنجلادش تكافح بكل إصرار وتصارع المستحيل رغم الفقر الشديد وضنك العيش ومحدودية الفرص التعليمية لتجعل ابنتها طبيبة متميزة في بلدها. وما الثقافة التي تدفع فتاة من أسرة هندية فقيرة أن تتعلم 3 لغات أجنبية لتتمكن من العمل في مركز اتصال بشركة عالمية بالهند ثم ترتقي إلى أن تصبح رائدة أعمال في مجال التقنية. وفي المقابل ما الذي يقنع فتاة من مجتمع غربي منفتح نشأت وتعلمت في واحدة من أكثر مدن العالم تطورا وازدهارا أن تسافر إلى ميادين القتال لتكون خليلة جهاد لمعتوه يحترف القتل. وأي ثقافة دفعت الابن المرفه لأستاذة جامعية مثقفة على ترك دراسة الماجستير في أفضل جامعات الغرب من أجل الهجرة إلى حيث يمكنه شراء سبايا يغتصبهن تحت راية الدين والمعتقد.

ما الذي يدفع ويحرك ملايين النساء والرجال في عدد من أكثر الدول فقرا وتأخرا للكفاح من أجل منح بناتهم وبنات مجتمعهم أفضل ما يمكن من فرص التعليم والتطور والحياة الكريمة والتمكين والعدالة الاجتماعية رغم كل التحديات؟ وفي المقابل ما الذي يجعل ملايين النساء والرجال في الكثير من البلاد الشرق الثرية والآلاف في دول الغرب المتطورة والمتقدمة لا يروا ضيراً في وجود ترتيبات اجتماعية تحط من مكانة المرأة وتكبل تطورها وتنتقص من كرامتها في زمن أصبحت فيه المرأة رائدة فضاء؟ بل ويتعاطف الكثير منهم مع من يقومون بانتهاك كرامة النساء المسالمات بأبشع الصور من قتل وتشريد وخطف وسبي واغتصاب.

إذن فرغم ما للفقر والجهل من أنياب تدمي وتعيق المساعي البشرية للرقي والتقدم الإنساني، إلا أنها في هذه الحالة بريئة براءة الذئب من دم يوسف؛ أو على أقل تقدير ليست بالسبب الرئيس في هذا التناقض الصارخ.  فالتأمل في هذه الظاهرة وتناقضاتها يضعنا أمام حقيقتين رئيسيتين:

الأولى: أن التحديات الأساسية التي تواجه تمكين المرأة وتعزيز مكانتها وحقوقها وكرامتها في مجتمعات العالم عموما وفي شرقنا الأوسط على وجه الخصوص تحديات ثقافية وبامتياز. فحيثما تواجدت ثقافة التعايش والتسامح وقبول الآخر ازدهرت مسيرة المجتمعات نحو الرقي الإنساني وتعزيز مكانة المرأة وحقوقها – ولو تدريجيا – وتمكنت من تجاوز سائر العوائق. وفي المقابل حيثما تراجعت ثقافة التعايش وقبول المختلف تتأزم الحالة الاجتماعية، وتتقيد القيم الإنسانية خاصة الداعمة لحقوق المرأة ومكانتها.

الثانية: أن كلاً من تقدم أو تخلف القيم الإنسانية المرتبطة بالمساواة بين البشر وتعزيز حقوق المرأة على وجه الخصوص لم يعد مرهونا بجغرافية المكان، بقدر ما هو مرتبط بجغرافية الثقافة. فتجد قرى وبلدات تتطور قيم المساوات فيها رغم ما تعانيه من فقر وتحديات تنموية جسيمة بسبب انتشار ثقافة التعايش بين أفراد مجتمعاتها. وفي المقابل تجد تجمعات سكانية وأحياء كاملة في قلب أكثر مدن العالم تقدما وانفتاحا كباريس ولندن تتراجع فيها حقوق المرأة ومكانتها بشكل ملحوظ وصارخ بسبب انحسار ثقافة التعايش وانتشار ثقافة التصنيف وبث الكراهية في تلك الجيوب السكانية.

وعليه فإن المسئولية العظمى لبناء مجتمعات متوازنة يعامل فيها البشر على أساس القيم الانسانية وليس على اساس اللون أو العرق أو الجنس تقع على عاتق صنّاع الثقافة والمعرفة في هذه المجتمعات. فأرباب الفكر والسياسة ورجال الدين والإعلام بإمكانهم أن يلعبوا أدواراً هامة وخطيرة في إيجاد الحالة الثقافية والبيئة الفكرية الداعمة لتبني قيم إنسانية ومبادئ أخلاقية تساعد مجتمعات العالم على الرقي بمكانة المرأة وتعزيز حقوقها والتعامل معها كإنسان كامل الأهلية. 

قد يتحجج البعض في الشرق الأوسط بأنه من الصعوبة بمكان تطوير ثقافات المنطقة لأنها ذات طابع ديني وتستند إلى قراءات ثابته لمبادئ دينية وتفسيرات عقدية يستحيل تغييرها.  إلا أن نظرة فاحصة لتطور الحياة البشرية في العالم من حولنا والتطورات التي حدثت في منطقتنا خلال قرن مضى تظهر لنا عدم استحالة احداث التطور في التكوين الثقافي. فإلى عقود قليلة ماضية كانت الثقافة الدينية في مشرقنا العزيز الصوت الأعلى المعارض وبشدة لأي نوع من أنواع التساوي بين الحر والعبد، بل كانت ترى في منع أسواق الرق وتجارة العبيد في بدايات القرن العشرين مخالفة لإرادة الخالق عز وجل، وتعتبر الحديث عن مساوات الحر والعبد غزوا فكريا من الآخر الكافر.

إلا أن اهتمام عدد من المفكرين والساسة المستنيرين بتطوير الفكر والثقافة وتبني اعداد من رجال الدين للمفاهيم الإنسانية الداعية إلى تساوي البشر وإنهاء الرق ساهمت على اجتثاث تلك الظاهرة المعيبة من مجتمعاتنا.  فقد سمح عدد من رجال الدين والفكر المنصفين لأنفسهم بأن يعيدوا قراءة ما كانوا يعتبرونه (حتى الأمس القريب) من المسلمات الدينية الثابتة. ونتيجة لهذه الخطوة الجريئة لهذه المجموعة من رجال الدين والفكر والسياسة انقلبت الرؤى خلال عقود قليلة، وتحولت لغة الدعوة إلى القتال وسفك الدماء حفاظا على الرق والعبودية كركن إيماني لا يقبل التغيير، إلى لغة تعتبر إلغاء الرق مقصداً أساسياً للدين وغاية لا بد أن تتحقق.  إن فهم مجتمعاتنا لـ (لا فرق بين عربي ولا عجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى) تطور تطورا نوعيا بسبب التخلي عن الإصرار على قراءته ضمن نفس النسق التاريخي المتوارث، والأخذ بمعطيات العصر والعلم وتطور الهوية الإنسانية.

والحكاية ذاتها تكررت في مواقف ثقافات مجتمعاتنا تجاه تقنيات الاتصال، ومفهوم الدولة المدنية، والتعليم الحديث، والترتيبات الاقتصادية، وعلوم الطب وهندسة الجينات وغيرها من متطلبات الحياة المعاصرة. فنتيجة لظهور قراءة حديثة لما كنا نعتبرها ثوابت لا تقبل التطوير تحولنا من مجتمعات بدائية إلى دول عصرية لها وزنها في المجتمع الدولي، ومن ثقافة كانت تزندق أرباب العلوم والكيمياء وتسفه افكارهم إلى مجتمعات حقق العديد من رجالها ونساؤها أعلى درجات التفوق والابداع في مختلف مجالات العلوم.

مجتمعاتنا أحوج ما تكون اليوم إلى تعزيز ثقافة التعايش والتسامح وتَقبّل الآخر لخلق بيئة تسمح بتطور المفاهيم الإنسانية. فمن خلال هذه الثقافة فقط نستطيع أن نتجاوز حالة التشنج والشحن الطائفي والفكري المتنامي باضطراد في المنطقة. وبهذه الثقافة فقط يمكن ايجاد البيئة السليمة التي تسمح لنا أن ننظر إلى المرأة التي تشكل نصف المجتمع على أنها انسان كامل. امرأة ورجل خلقا من أصل واحد، وروح واحدة لا جنس لها.


لا يمكن لمجتمعاتنا أن تتطور وتخرج من مستنقع العنف والكراهية وتسابق سائر الأمم في التقدم الروحي والمادي وهي غارقة في تقسيم وتصنيف نفسها على أساس العرق والجنس والفكر والمعتقد. فثقافة الاقصاء والتصنيف وثقافة التمييز على أساس الجنس وجهان لعملة شيطانية واحدة. عملة تصرف لإثراء ثقافة العنف والكراهية بالمنطقة ومسح تراث التعايش والتسامح من ذاكرة مجتمعاتها.

ممدوح الروحاني
صحيفة الأيام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق