آراء مستنيرة



التعايش.. ضرورة مرحلة أم حاجة مستدامة؟

محمد حمزة
صحيفة مكة – الاربعاء 18 فبراير 2015

التنوع الطبيعي في الحياة هو سُنة كونية ربانية، وهو جمال الوجود البشري وغير البشري، فاختلاف الثقافات واللغات والألوان والطبائع هو جانب بشري حتمي، وقد جُبل الإنسان السويُّ على تقبّله والتكيف معه واستيعابه، وما سلوك البشر عبر التاريخ إلا تأكيد على تلك الحقيقة التي مَن يكابر عنها فهو يخالف الفطرة ويعارض السنن، والحضارات السابقة كان من أُسس استمرارها وبقائها وقوتها هو مدى إمكانية تعايش أفرادها مع بعضهم بعضاً وتكيفهم مع الكون والطبيعة، وكثير من الحضارات ضعفت وتفككت وتلاشت بسب التناحر الشعبي على أمور بسيطة كان بالإمكان أن يعذروا بعضهم فيها ويتقبلوا وجهات النظر المتعددة والمتباينة، ولكن حُب التسلط والسيادة لرأي معين ومحاولة فرضه على الجميع دون مراعاة للتعددية الثقافية هو أول خطوة من خطوات الضعف وطريق سهل لإيقاد نار الفتن والقلاقل المجتمعية.

الحضارات القوية استطاعت، عبر سيادة مفهوم التعايش، صهر أفرادها في بوتقة واحدة تحت ظل الأرض وتحت ظل أنظمة وقوانين تحكم هذا التنوع وتسيطر على التباينات، واستغلالها كمصدر قوة لاستمرار عمرها وانتشار فكرها وثقافتها وإنتاجها المادي والصناعي، هنا ندرك أهمية التعايش كضرورة وطنية دائمة وحاجة إنسانية لا مناص منها، وقد يكون جانب المصلحة هو المسيطر للتأكيد الدائم على أهمية التعايش، حيث المصلحة العامة للحضارة وللناس هي التي تحتم على الجميع القبول الطوعي أو حتى القسري لكل أطياف المجتمع بمختلف توجهاتهم الثقافية والدينية.

التعايش ليس مجرد ترف فكري أو شعارات إعلامية؛ بل هو ضرورة وطن وحاجة شعب وحتمية طبيعية، والتعايش لا يعني الحب والموالاة والرضوخ بقدر ما يعني الاستيعابَ والتقبل، وهذا هو أساس قانون التعايش الذي يتطلب تحقيق العدل والإحسان في المعاملة؛ لتحقيق أقصى درجات السِّلْم الاجتماعي والظفر بالأمن والاستقرار الوطني، ومن بعد ذلك التفرغ لبناء الوطن والسعي لدفع التنمية والنهوض لمصاف الدول المتقدمة، يقول الإذاعي الأمريكي برنارد ملزر: إذا تعلمت كيف تختلف دون أن تصبح مقيتاً فقد اكتشفت أسرار التعايش، ولا أصدق من الآية الكريمة: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ).







"خارطة طريق" لتعزيز التسامح

د. عبدالحميد الأنصاري
جريدة الاتحاد – الاربعاء 18 نوفمبر 2015


مر يوم التسامح العالمي الاثنين (16 نوفمبر) واحتفل العالم به وسط أجواء ملبدة بغيوم التطرف والتعصب والكراهية والعنف تسود عالم اليوم. في يوم الاحتفال العالمي بالتسامح دول عديدة، أبرزها فرنسا، منشغلة بدفن موتاها وتضميد جراحها إثر الاعتداءات الإرهابية التي ضربتها وأودت بحياة العشرات من الضحايا الأبرياء والمئات من الجرحى الذين شاء حظهم العاثر أن يكونوا في مسارح تلك الحوادث.

قبل 19 عاماً اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم التسامح العالمي ليكون يوماً تحتفل به كافة الدول الأعضاء، في كل عام بهدف تعزيز وترسيخ مفهوم التسامح في البنية المجتمعية لتلك الدول، كثقافة عامة تحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم بعضهم ببعض، والمجتمعات بعضها ببعض، انطلاقاً من أن التسامح ضرورة لبقاء الإنسانية وتطورها في عالم يزداد اتساعاً وثراءً وتنوعاً، كل يوم بل كل ساعة يواجه تحديات حقيقية تهدد سيادة معاني التسامح وانتشارها، كما جاء في رسالة الأمين العام للأمم المتحدة.

وبطبيعة الحال، وطبقاً للمفكر البحريني محمد جابر الأنصاري، فإن: «التسامح ليس فطرة يولد بها الإنسان، بحيث نجد إنساناً أو شعباً متسامحاً وإنساناً أو شعباً غير متسامح بفطرتهما، التسامح ممارسة عملية من الدرجة الأولى، وحصيلة لأسباب موضوعية قبل أن يصبح قيمة مجردة، وقد نجد فرداً أو شعباً متسامحاً في لحظة من حياته، وأقل تسامحاً في لحظة أخرى».

لذلك يبقى السؤال الأهم: كيف نحتفل سنوياً بيوم التسامح بما يرسخه ويعززه في مجتمعاتنا؟ كيف تستطيع مجتمعاتنا تجاوز «ثقافة الكراهية» لتكريس «ثقافة التسامح» عبر خطوات عملية ملموسة؟ كيف نرسم «خارطة طريق» لتعزيز التسامح في السلوك والعلاقات المجتمعية، سواء في النطاق الداخلي أو العربي أو الإقليمي أو الدولي؟

إن التسامح محصلة عمل دؤوب على مستويات الدول والمجتمعات في تغيير الثقافة المجتمعية، لذلك علينا إعادة النظر في المفاصل الأساسية الحاكمة لهذه الثقافة وأبرزها:

المفصل التربوي: وهو البداية الحقيقية لتعزيز التسامح؛ في تسامح الأبوين، وأفراد الأسرة مع بعضهم ومع الجيران ومع الخدم.

المفصل التعليمي: للبيئة التعليمية الشاملة (المنهج، المعلم، النشاط) دور بارز في تكريس ثقافة التسامح، فالتعليم- وبخاصة المعلم- رافد عظيم لثقافة وقيم التسامح، والمنهج القائم على الفكر النقدي، عامل قوي في التحصين من الفكر الظلامي.

المفصل الديني: الخطيب الديني المتسامح والعذور للناس، خير مُعين على غرس ثقافة التسامح، عليه أن يكون داعية للخير وباعثاً على الأمل، وبصفة خاصة لدى الشباب. فلا يجوز أن نتسامح مع الخطيب الديني الذي يدعو بهلاك الأمم الأخرى من على منابرنا (بيوت الله تعالى) أو يدفع شبابنا للهلاك تحت اسم الجهاد والجهاد منه براء.

المفصل الإعلامي: على الإعلام أن يكون متوازناً، فيركز على «القواسم المشتركة» بين الأديان والمذاهب والثقافات، بهدف ترسيخ ثقافة التسامح الديني والسياسي بين طوائف المجتمع، وبين الشعوب المختلفة.

المفصل التشريعي: ينبغي الحرص على تنقية تشريعاتنا من التمييز الديني أو المذهبي أو الطائفي أو الجنسي أو العرقي أو القبلي، إذ لا يمكن لثقافة التسامح أن تترسخ، إذا كان قطاع مجتمعي يعاني هضماً في حقوقه.

المفصل السياسي: على الدولة وضع استراتيجية وطنية لتعزيز التسامح واحترام التعددية وقبول الآخر، وعليها أن تكون قدوة في التسامح السياسي والديني والاجتماعي بين حكومات المجتمع وأطيافه المختلفة.











ملّاك الحقيقة المطلقة

د. عبدالحميد الأنصاري
جريدة الجريدة – الاثنين 5 أكتوبر 2015


ما تعانيه مجتمعاتنا من ظواهر التطرف والعنف وكراهية الآخر، وما تشكو منه أنظمتنا السياسية من صراعات سياسية مع تنظيمات عقائدية وميليشيات مسلحة تنازعها السلطة والشرعية، وما تتعرض له الأقليات الدينية من تمييز وذبح وتهجير، مرده الأساسي ذهنية "تملك الحقيقة الكاملة" المهيمنة على قطاعات من الجماهير والنخب والتنظيمات السياسية وبخاصة "العقائدية" دينية أو قومية أو يسارية، وهي ذهنية ليست وليدة الأوضاع المعاصرة، بل هي قديمة قدم التاريخ الإسلامي، كان ادعاء "تملك الحقيقة" هو السمة الغالبة على كل الفرق الإسلامية في منازعاتها المذهبية والعقدية حول: من هي "الفرقة الناجية"، في حديث منسوب إلى الرسول صَلى الله عليه وسلم، بأنها وحدها التي تدخل الجنة، دون غيرها من الفرق الإسلامية!

وهو حديث مشكوك في صحته ومطعون في سنده ومتنه، إلا أنه كان المرتكز الأساسي في إنتاج "العقلية الاحتكارية" للدين والمذهب، والتي جعلت كل فرقة تدعي أنها على "الحق المطلق" وغيرها على باطل، وأدى ذلك إلى سيادة ثقافة مجتمعية ترى أن "العقيدة الصحيحة" واحدة، أصحابها يحتكرون الجنة دون بقية الفرق التي هي "ضالة" أو "منحرفة" وكانت هذه العقيدة، وراء معظم صراعات ومآسي الفرق الإسلامية تجاه بعضها في الماضي، وهي نفسها، وراء صراعاتها، اليوم، كما كانت هذه العقيدة، الركيزة الأساسية في انتشار وترسيخ كراهية الآخر المختلف ديناً أو مذهباً أو قومية، وإقصائه وممارسة التمييز والتهميش ضده، وحرمانه من حقوقه السياسية، بل الدينية المتمثلة بإقامة مكان للعبادة، ولا أدل من الزوبعة التي أثيرت حول المعبد الهندوسي في دولة الإمارات!

وقد ساعد على ترسيخ "ثقافة الإقصاء" السياسي والديني والمذهبي، أن السلطات السياسية- في ظل الخلافة الإسلامية- كانت تتبنى تلك العقيدة، رسمياً، وتمارسها فعلياً عبر تهميش الآخر المغاير ورفضه.

وكانت من الإفرازات السلبية الممتدة إلينا، لتبني تلك العقيدة، أن الثقافة المجتمعية أصبحت تضيق بكل أشكال النقد والمراجعة والاعتراف بالأخطاء والاعتذار، فنحن الأمة الوحيدة التي لا تزال لا تعترف بأخطائها تجاه الشعوب الأخرى، في الوقت الذي نطالب الآخر بالاعتذار عن أخطائه تجاهنا!

في تعليمنا العام، ندرس طلابنا "الخلاف لا يفسد للود قضية"، وفي الواقع المعيش يفسده ويجلب العداوة، ونعلم ناشئتنا المقولة المشهورة "الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله"، لكننا ما زلنا نبجل الرجال ونعرف الحق بهم! وفي تعليمنا الديني، يلقن الشيخ طلابه "اختلاف أمتي رحمة"، لكن خريجيه لا يتسامحون مع مخالف قط، وهم أسرع الناس إلى تكفيره وتخوينه واستباحة دمه، وعندنا في الساحة نماذج من الفتاوى المهدرة للدماء لا حصر لها، أصدرها مشايخ بارزون!

"خطاب الكراهية" الذي يحاصرنا ويدفع شبابنا للهلاك، بعض تجليات ذهنية "الحقيقة المطلقة"، ولن ينفعنا ترديد أسطوانة "المظالم" الغربية، فهذا العنف الضاري المستشري هو عنف أصيل مؤسس بنصوص وفتاوى دينية، وليس- كما يزعمون- ردة فعل على مظالم الداخل والخارج، هؤلاء ينطلقون من ذهنية احتكارية لا تعترف بنسبية الحقائق السياسية والاقتصادية والفكرية والمذهبية، ويهدفون إلى استعادة الخلافة الزائلة، وتطبيق شرع الله تعالى المغيب! وما فكرة الحاكمية التي ابتدعها المودودي إلا إحياء لشعار الخوارج "لا حكم إلا لله" تعالى، وثمرة هذه الذهنية الاحتكارية!

كيف نفكك هذه الذهنية؟!   إن مهمة الكتاب والمثقفين العمل على تفكيك هذه العقلية، عبر عدة محاور:
1) الإيمان بأنه لا أحد يمتلك الحقيقة الكاملة أو الصواب المطلق، لأنهما عند الله تعالى وحده ولا سبيل للبشر إليهما "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً"، ومعارف البشر مها تقدمت لن تخترق قيود "النسبية" معرفة أو علماً تطبيقياً.

2) الإيمان بأن "اختلاف البشر" أدياناً، ولغات، وأجناساً، وألواناً، وعقولاً، وأفهاماً، ونفوساً، حقيقة إلهية ثابتة، لأن الكون خلق على قانون "الاختلاف"، ولأن البشر، خلقهم المولى تعالى من أجل الاختلاف، ولذلك خلقهم للتنافس البنّاء لإعمار الأرض وتقدم العلم والمعارف، وإن الحياة نفسها لا تقوم ولا تتجدد ولا تستمر إلا بقبول التعددية الدينية والفكرية والمذهبية والسياسية... إلخ، وإن الله تعالى وحده هو الذي يحاسب البشر يوم القيامة، وهو الذي يحدد مصيرهم "إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ".

3) علينا تربية ناشئتنا وتثقيف جماهيرنا بقبول الآخر المختلف ديناً أو مذهباً أو جنساً أو رأياً، فالاختلاف نعمة ومزية وإثراء، وإذا كان القرآن الكريم قد قرر الاختلاف حقاً إنسانياً مقرراً، فلماذا نضيق به؟ ولماذا لا نتمثله في سلوكياتنا وعلاقاتنا وتنظيماتنا؟! يقول تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً" وفي آية أخرى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا".

4) وأخيراً، فإن منهج الإقصاء والتشكيك في عقائد الآخرين والزعم بأننا وحدنا أصحاب العقيدة الصحيحة، والآخرون على ضلال، منهج مرفوض عقلاً وشرعاً، وعلى المدارس الدينية وخطباء المساجد، الكفّ عن تدريس وترديد حديث "الفرقة الناحية" فأين هؤلاء من قول عمر بن عبدالعزيز- رضي الله تعالى عنه- ما أحب أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لا يختلفون، لأنه لو كان قولاً واحداً لعاش الناس في ضيق.








في "الإصلاح الديني"

د. عبدالحميد الأنصاري
جريدة الجريدة – الاثنين 28 سبتمبر 2015


دعوة يقدمها الكاتب إلى قرائه للإفادة من كتاب «الإصلاح الديني»، الذي صدر منذ عقد من الزمن، غير أن ما يطرحه لايزال حديث الساعة، إذ يتناول 20 قضية جدلية، عبر منهج تنويري في التشخيص والمعالجة،  معتبراً أنه كتيب يؤسس لمعالم عقلانية للإصلاح الديني المنشود.

هذا كتيب صغير لكنه نفيس، في سلسلة "كتاب التنوير" لمجموعة من رواد الفكر التنويري العربي، صادر من "مركز الحوار والثقافة" بالكويت، ديسمبر 2005، وهو مركز بحثي لمجموعة من شباب الكويت المؤمنين بأن المستقبل للعقلانية التي أمر بها الدين الإسلامي، كما يقول الدكتور أحمد البغدادي، أشهر رموز العقلانية الكويتية، رحمه المولى تعالى، في المقدمة- وقد أسعدني صدور كتاب عنه مؤخراً بقلم الباحث الكويتي القدير د. عقيل عيدان بعنوان عقلاني الكويت- ورغم أن هذا الكتيب قد صدر قبل 10 سنوات فإن موضوعاته وقضاياه حديث الساحة، وتتناول 20 قضية جدلية، تدور حول مواضيع فكرية ودينية وفق منهج تنويري في التشخيص والمعالجة، أبرزها: حرية المعتقد، هل حقاً هذا هو إسلامنا؟

الأديان ليست مهمتها صنع النظريات العلمية، الإسلام والليبرالية، تجديد الخطاب الديني، الحاجة إلى فقه جديد، فضيلة التسامح الديني، العلمانية والدين: الإصلاح الديني والتنوير، الأنا والآخر في الوعي الديني، الدين والحداثة، الإصلاح الديني قبل الإصلاح السياسي، في سبيل فقه إسلامي علماني.

يقول البغدادي في المقدمة: الإصلاح الديني من نوع السهل الممتنع، بمعنى أن الجميع يعتقد بسهولة تحقيقه، لكن الواقع المُعايش يكذبه، ذلك أن هناك جملة من الظروف والمفاهيم المعوقة، ليس فقط، فيما يتصل بالكيفية، بل فيما يتعلق بالمصطلح ذاته، لأن رؤية عالم الدين تختلف في مفهومها عن رؤية الليبرالي المؤمن الذي يتميز برؤية أوسع للنص، فهو ضعيف التأثير في مجتمع يتمسك بالمظاهر الدينية ويعتمد الثقافة الشفهية المبسطة، خلافاً للطرح الليبرالي الذي يدعو المسلم إلى التفكير في النص واستخدام عقله في الفهم والتفسير.
ويشرح المفكر السوري هاشم صالح، منهجه للإصلاح الديني عبر محاضرة للأستاذ جمال البنا- المصلح الديني الكبير- رحمه الله تعالى، ألقاها في باريس، ملخصها: تنقية التراث من كل تلك التراكمات والشروحات وشروحات الشروحات التي تفصل بيننا وبين القرآن الكريم، بحيث أصبحنا نعيش في عصر مضطرب، أصبحت فتاوى أصغر شيخ وكأنها كلام منزل! تجيز قتل هذا أو تبرئة ذاك بدون أي رادع أو وازع، وفي مثل هذه الظروف المدلهمة، يظهر المصلحون الكبار لكي يقدموا التفسير الصحيح لجوهر العقيدة، الذي أصبح مطموراً تحت الركام الهائل لأقوال المفسرين والفقهاء على مدار القرون، وبالتالي فالعودة إلى "النص المؤسس" والقول إنه وحده "الملزم" مع ما صح من السنة النبوية الشريفة، خلافاً لكلام كل البشر، ينقذنا من هذه الفوضى والفتاوى العشوائية التي تهيمن علينا والتي جعلتنا في صدام مباشر مع أمم الأرض قاطبة.

المفكر السعودي الرائع تركي الحمد يتحدث عن "الوسطية" كمنهج محمود في الحياة سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، لا أحد ينكر خيرية الوسطية في الأمور كلها، وكان الفلاسفة بدءاً من سقراط إلى هيغل، يرون الوسطية الحل السحري لكل مشاكل الإنسان والمجتمع، فخير المجتمعات وأكثرها استقراراً، هي التي لا تحيد عن الوسطية، وخير الأفراد من كان معتدلاً في سلوكه، وخير الأنظمة السياسية ما كانت وسطية في أنظمتها وتشريعها وسياساتها.

لكنه يعقب، بأن كل هذا "تنظير جميل" لكنه ليس كافياً، التنظير المجرد يحمل في طياته كل الحلول ولا يحمل أي حل في ذات الوقت، فعندما يبدأ الهبوط من سماء التجريد إلى دنيا المحسوس، تثور المشكلة وترتبك الأمور، نحن نتفق حين نكون في دائرة التجريد والعموم، ونختلف حين ننتقل إلى دائرة المحسوس، مثلما نتفق على جمال الغابة من بعيد ونختلف على جمال الأشجار حين نكون في قلب الغابة، أسئلة كثيرة تثار: من يحدد ما هو الوسط الذهبي المبتغى؟ وبأي معيار يكون التحديد؟ وهل هذا الوسط كمي أم كيفي؟

إذا تأملنا خطابات الإسلاميين، نجد الكل يدعي الوسطية، من الخوارج قديماً إلى الجماعات والتنظيمات الدينية المعاصرة وبكل أطيافها وألوانها.

ينتهي مفكرنا إلى أن "الوسطية" مفهوم نسبي، فالوسطية الأميركية غير الهندية أو العربية، وهي قبل ألف عام، غيرها هذا الزمان، ووسطية أفلاطون ليست وسطية أرسطو... لذلك فهو مفهوم مبهم لا معنى له ولا يشكل حلاً للمشكلات، لافتقاد المعيار الموضوعي المحدد له.

ومع اتفاقي مع مفكرنا الجميل في نسبية مفهوم "الوسطية" إلا أني أختلف معه في غموضها وعدم إمكان تحديدها، فالغموض والنسبية لا يعنيان تمييع المفاهيم، وعدم إمكان الاتفاق على معاييرها، لسببين:

1) أن شأن الوسطية شأن كل المفاهيم والقيم: المساواة، العدالة، الحرية، الخير، الشر... إلخ. فالنسبية قدر الإنسان في الأرض كما يقول.

2) ومع ذلك فإن البشرية وعلى مر تاريخها، ميزت بين الخير والشر، الصدق والكذب، الحسن والسيئ، الجمال والقبح، لأنه عز وجل لم يترك الإنسان في عمى وضلالة، فقد أودع في الضمائر والعقول الإنسانية منذ فجرها، ما يميز ويصحح ويعرف به الصواب والخطأ والخير والشر، ثم أرسل وحيه عبر الرسل- عليهم الصلاة والسلام- هداة للبشرية، تعزيزا لما أودعه في النفوس والعقول، إذ لو كانت البشرية لا تستطيع التمييز بين مفاهيم الحق والعدل والخير والشر والوسطية والتطرف، ما استطاعت تحقيق المنجزات العلمية والمعرفية التي ننعم بثمارها اليوم.

وبعد: فهذا كتيب ينير العقل، ويرفع الوعي، ويحمل نسائم الحرية والأمل، ويؤسس لمعالم عقلانية للإصلاح الديني المنشود، أدعو القارئ العزيز للإفادة منه.










للتعايش والتقاربِ بين الأديانٍ والمذاهِب!

د. إبراهيم عباس نـَـتـّو
عميد سابق بجامعة البترول – السعودية


حبذا لو يُسمحُ لي بسؤالٍ واحدٍ مغايرٍ للمألوف :
ماذا لو تم التعامل مع المذاهب (الأخرى)، هكذا.. كـ (أُخرى)؟ أو على انها اديانٌ/ معتقداتٌ موازية؟

اي: ان تكون لهم كلهم معتقداتهم، وطقوسُهم، وحتى (ربما) ما لا يناسبنا او نرتضيه منهم؟ و أركز هنا على التعامل مع اشقائنا الشيعة .. مثلاً لا حصراً.

فلمَ لا يكونُ العيشُ المشتركُ داخلَ البلد الواحد و خارجَه عيشةً حُسنَى؛ او لنقُل على الاقل عيشةً تعايشيةً غيرَ ضنكا؟

ولشيء من المقارنة: فإن هناك، مثلاً، إيمان اخوتنا اتباع المسيح، و اعتقادهم بالثالوث او ألوهية/ربوبية المسيح ذاته. فكونُ انّ لدينا نحن فكرةً مغايرة، او انّ ما لديهم غيرُ (مطابقٍ) لما هو عندنا .. فهل يعني ان من(حقنا) الهجوم عليهم ومحاولة دحض وتسفيه وتبديل وتدمير ما عندهم؟

ما شأننا نحن؟؟ وهل من المطلوب، فيما يخصُ حالَ اخواننا المسيحيين، مثلا، انه لكي تكتمل معتقداتنا نحن – او لكي يرتاح بالُنا – ان لا حتى نسمع منهم او عنهم بأنهم يعتقدون (بتقديسٍ) معينٍ للمسيح؟

وما جَلبي هنا لهذا العنصر المسيحي .. اعلاه، الا كمثال توضيحي و تنبيهي؛ املاً في انّ 'بِضدِّها تتميزُ الأشياءُ' .. وعلى طريقة "مِن بابِ أولَى".

و كانَّ من يقول: ("لَجلَ الله، فُكّوونا") .. لأجل الله، اتركونا من المطاحَنة والطِحان اللاّنهائي؛ ودعوا الناس .. البشرية في حالها. (مثلاً في پلاج سوسة، المعتمد على مردوده (وأمثاله) اقتصادُ تونس الشقيقة، الخ). دعوهم في سلام؛ ودَعوا الكلَّ يعيش!

فبالنسبة 'للسوشي' المفروط، السُّنة و الشيعة، فأرجو ان نبدأ و لو بشيء من "التعايش" .. وذلك للألفية وما بعدها .. ولو بمعاملة – مزدوجة – وكأنهما (عقيدتان). ولٍمَ لا!؟

و ذلك بدلاً من المضي في ألفيّةٍ تتبعها الفيةٌ أخرى .. متشبثين، بتوازٍ، على قضيبي قطار، و ممسكين بحلق بعضهما البعض طيلة الرحلة و الحياة .. و بينما يصرُّ كل منهما على انهما 'واحد' (و هذا مجافٍ للصدق)؛ و في نفس الوقت، تجدهم يمضيان متواصلين في الساديّة تجاه الآخر ..والمازوخيّة صوب الذات!

وما الضَّيرُ في أن يسعى الشيعة لتوسيع حيّزهم، وفي رفع نسبتهم في العالم (حالياً: حوالي15%). فالكل له كل الحق في أن يعيش، بل وأن ينمو. ولكن المهم ان تكونَ عيشةً تنمويةً هنيّة، وجيرانيةً سِلميةً بل وتبادلية وتكاملية، خالية من أي تنابزات من جهة (السُّنة)، ومن أي نَغزات وتلفظات من الأخرى (الشّيعة).

وبخطوة اخرى، خارج المعتقداتية 'المسلمانية' و 'الديانية' 'السماوية'، الخ: هل لنا/علينا أن نلاحق اتباع (بقية) المعتقدات، فنعمل على 'تصحيح' كل من وما يصادفنا او حتى – نكتشف – انه يخالفنا؟!

هنا اطلب واقترح تحملاً ازاء ما قد يظهر على أنه مخالفة، كـ 'التلفظ' نحو هذا او صوبَ ذاك من 'الصحابة'(و هو الذي يبدو بأنه العقبة الكأداء، و أنه بؤرة مَركز غضبِ السنة ازاءَ الشيعة).

فالمقترح هنا: هو ان يتمّ تحاشي الحساسية ورَدِّ الفعل القوي نحو 'الموقف' الصحابي من قِبَلِ الشيعة.
وبكل بساطة: مقابلة ذلك بالتغاضي التام! 

لأن هناك سؤالاً موضوعياً: 'طيّب، وماذا بعدُ؟؟

ماذا كان سيحلُ بالكون لو تلفظَ هذا او ذاك تجاه فلان ما (غير انه كان قد قيل: "لا تسبّوا")؟ وهل من الضرورة الوجودية ان نقوم داحسياً و لا نقعد؟

إذن، فلمَ لا يَترك كلُ فريقٍ الطرفََ الأخرَ لشأنه، و يكون لكلٍ 'دينُه' ومعتقدُه، و طقوسُه، وتلاواتُه .. وكاملُ ديدنِه؟

فنتحاشى الاحتكاكات والمماحكات حولَ ايّ من هذا وذلك وذاك؛ ونكونُ قد حقنّا ولو بعض الدماء، واقتربنا من مستوى من التعايش والإخاء.






الجواب هو التسامح والتعددية

محمد شمس الدين
جريدة الشاهد الكويتية – الاثنين 17 أبريل 2015

في أواخر التسعينات بدأت أفرض على نفسي سؤالاً لم أجد له اجابة لفترة طويلة من حياتي وبالأخص في فترة الشباب، وكان سؤال لا يطرح لا بوسائل الاعلام آنذاك ولا حتى بالمجالس والدواوين، ولكني كنت مصراً على أن أجد له جواباً، ولا يهم أن كان صحيحاً أم خطأ ولن اتابع أن كان مهماً أم لا قيمة له، ولكني بحثت عن الجواب لفترة طويلة، الى أن وجدت بعض الأجوبة التي لم ترض عقلي ولم تكن كافية وشافية، ولكني بعد سنين من البحث بالكتب والصحف ومناقشة بعض العلماء المختصين بالعلوم السياسية والعلوم الاجتماعية الا أن اجوبتهم كانت مختلفة ولا تتوافق مع العقل والمنطق، ورغم أن سؤالي لم يكن له علاقة بعلوم الكيمياء ولا بنظريات الفيزياء ولكنه كان يمثل العقدة لدى كثير من الذين لهم علم بالجواب، فلذا شعرت بأني بيوم من الأيام سأقوم بنشره بالصحف ليفتح الباب لمناقشته وليصل الجواب للمسؤولين لعلهم يعلمون ويبدأون بالتحرك لجعل وطننا أكثر تسامحاً وتقبلاً للتعددية الدينية والمذهبية والفكرية والعقائدية، السؤال كان لماذا تفوق الغرب علينا وسبقنا قروناً عدة ووضع خلفه حاجزاً كبيراً لا نتمكن من تجاوزه لنلحق ركبهم ونتمكن من الوصول اليهم؟ ورغم الاجوبة الكثيرة التي سمعتها الا أن الأمر الحقيقي والجواب المقنع هو بالسماح للتعدد في اوطانهم رغم النزاعات التي وصلت للقتل وسفك الدماء قبل الانفتاح، فرغم صراعهم وقوة الخلافات العقائدية والدينية بينهم الا أنهم قدموا التسامح والتعددية في أوطانهم وفرضوها على شعوبهم لذا بدأت ثمار التطور تظهر لهم وبدأ يقتطفها الشباب واستقرت بلدانهم، لذا علينا أن نبدأ بالتسامح وقبول التعددية الدينية والمذهبية والفكرية والعقائدية، فمنها سيبدأ الوطن بالتقدم وسينشغل الشعب بما ينفعه ويترك ما لا ينفعه من أمور خلافية ومناقشة قضايا دينية لا علاقة له بها، لذا علينا ان نطبق مادة الدستور التي تنص على حرية الاعتقاد مطلقة وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الاديان طبقاً للعادات المرعية، على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب، فبالكويت كغيرها أديان ومذاهب من الأقليات مثل البهائيين ولا نعلم عددهم لأن اخواننا البهائيين يتجنبون ذكر معتقداتهم بالعلن كباقي المذاهب لأنهم لا يريدون التصادم مع أحد ولا مناقشة أحد بما يؤمنون ويعتقدون، وكذلك البهرة وغيرهم من المواطنين والمقيمين بالكويت فلهم منا كل احترام وتقدير ومحبةما داموا مواطنين صالحين، ولهم الحق أن يكون لهم مسجد أو غيره مما يحتاجونه وعلى الحكومة مساندتهم واعطائهم ما يريدون وما يتمنونه من مقر ومساحة حرية لممارسة شعائرهم بكل حرية، فالكويت بلد التسامح ولا حاجة لنا بمنع او حرمان أحد من حقه لأنه يختلف معنا بل بالعكس نريد كل خير ونفع لأوطاننا ولا نريد أن يشعر أحد بالكويت من أنه محروم من التعبد او حتى من ممارسة شعائره الدينية، ولا اظن بأن أهل الكويت يعارضون التعددية، ولنطبق ما طبقته كل الدول المتقدمة من تسامح وتعددية لأنها هي السبب بتقدمها وازدهارها.





مستقبل التسامح الديني في المجتمع العربي

د. عبدالحميد الأنصاري
جريدة الجريدة – الاثنين 16 مارس 2015

طيب الله تعالى ذكرى زمن سئل فيه إمام التقريب بين المذاهب الإسلامية الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر: هل يجب على المسلم أن يقلد أحد المذاهب السنية الأربعة، وليس من بينها مذهب الشيعة؟
فأجاب- رحمه الله تعالى- "لا يوجب الإسلام على أحد اتباع مذهب معين، بل لكل مسلم الحق في أن يقلد أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، ولمن قلد مذهباً أن ينتقل إلى غيره، ولا حرج عليه"، ثم أضاف مؤكداً "إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة".

هكذا كان علماؤنا الأجلاء متسامحين، وهكذا كانت مجتمعاتنا- قبل نصف قرن- متسامحة، فأين نحن اليوم من ذلك الزمن، زمن التسامح والمحبة والتعايش؟!
نعم، كانت مجتمعاتنا في الماضي أكثر تسامحاً- دينياً ومذهبياً- فما الذي حلّ بها وجعلها أكثر تزمتاً وتشدداً وكراهية؟!

كان هذا مقدمة لورقتي "مستقبل التسامح في ظل ثقافة الكراهية" إلى ملتقى مجلة "العربي" الرابع عشر- ثقافة التسامح والسلام- في سياق تكريم "منظمة الأمم المتحدة" لسمو أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، بمنحه لقب "قائد العمل الإنساني" وتسمية دولة الكويت "مركزاً إنسانياً عالمياً".

وإذ ينبغي الإشادة بالدور الريادي لمجلة العربي سواء في "التكوين المعرفي" للنخب العربية والإسلامية، أو في نشر "ثقافة التسامح" في ذلك الزمن الجميل، فإننا اليوم في هذا الزمن- زمن كراهية البشر والحجر- ما أحوجنا إلى استعادة هذه الثقافة الإنسانية ونشرها وترسيخها، من أجل كسب معركة المستقبل، مستقبل شبابنا، المستهدف من "دعاة الكراهية" عبر فتاوى وخطب تحريضية على الآخر، تفيض من مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت بيئة خصبة للكراهية.

"الكراهية" فكر عدواني ينشأ في العقول أولاً، ثم يستقر في النفوس ثانياً؛ ليتحول إلى سلوكيات عنيفة ضد الآخر، ومن هنا، ومن أجل كسب المستقبل، علينا تفكيك خطاب الكراهية بزرع ثقافة التسامح في البنية المجتمعية، عبر تكامل أدوار البيت والمدرسة والجامع والإعلام والخطاب السياسي والخطاب التشريعي، بتبني "استراتيجية وطنية شاملة" تتعاون فيها كل مؤسسات المجتمع والدولة، لنشر قيم التسامح وقبول الآخر والمحبة والسلام والتي جميعها، جوهر ديننا وأساس كل الأديان والمذاهب الإنسانية ومواثيق حقوق الإنسان، ويكون من مرتكزاتها:
١- الإيمان بأنه لا أحد يمتلك الحقيقة الكاملة؛ لأن الحقيقة الكاملة عند الله تعالى وحده، ولا سبيل للبشر إليها، "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً"، ومعارف البشر- مهما تقدمت وتعمقت- لن تخترق قيود النسبية سواء في المعارف أو العلوم.
٢- الإيمان بأن اختلاف البشر أدياناً، ولغاتٍ، وأجناساً، وألواناً... إلخ، حقيقة إلهية ثابتة؛ لأن الكون خلق على قانون الاختلاف، ولأن البشر خلقهم المولى تعالى من أجل الاختلاف، ولذلك خلقهم، وأن الحياة نفسها لا تقوم ولا تستمر إلا بـ"التعددية"؛ ولذلك علينا أن نتقبل الآخر بما هو عليه، لا بما نريده، فلا يضرني كمسلم كون اليهودي على يهوديته، والمسيحي على مسيحيته، والبوذي على بوذيته، والبهائي على بهائيته، لكن المطلوب مني أن أتسامح وأتعايش في هذه الحياة، وأتعاون معه لتحقيق المنافع المشتركة، والله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يحاسب البشر، يوم القيامة "إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ".
٣- ترسيخ البعد الإنساني في الخطاب التعليمي، والديني والإعلامي، والتشريعي، والثقافي.
٤- تنقية المناهج من الإرث التعصبي والتمييزي تجاه الآخر الديني والمذهبي وتجاه المرأة.
٥- تثقيف الأئمة والخطباء بمناهج الحوار وقبول الآخر وثقافة التسامح والتعددية.
٦- تدريس المفاهيم الدينية: الجهاد، والولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من منطلق حضاري، يصحح التشويه الذي لحق بها من دعاة الكراهية.
٧- تخليص التشريعات الوطنية من شوائب التمييز ضد الأقليات والمرأة.
٨- التركيز على القواسم الدينية والمذهبية المشتركة، طبقاً لـ"نتعاون فيما اتفقنا ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا".
٩- تبني منهج النقد الذاتي في خطابنا التعليمي والديني والإعلامي.
١٠- تعزيز قيم المواطنة كرابط جامع لأبناء المجتمع الواحد، يعلو فوق الروابط الأخرى مثل القبلية والطائفية والأيديولوجية.
١١- الرقابة على منابر المساجد- بيوت الله تعالى- بما يجنبها الانزلاق إلى ساحة الخلافات السياسية والمذهبية والأيديولوجية "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً".
١٢- مراقبة المواقع الإلكترونية التي تنشر خطاب الكراهية وتحرض على الآخر.
١٣- التوسع في إنشاء مراكز بحثية تعنى بالحوار الحضاري والثقافي والديني والمذهبي، جسراً للتواصل بين الناس ودعماً لثقافة التسامح والمحبة والسلام.
ختاماً: قبل ٢٠ عاماً تساءل المفكر البحريني الكبير محمد جابر الأنصاري في مقالة رائعة "أفضل المبادئ وأسوأ الأوضاع": لماذا تعيش مجتمعاتنا أسوأ الأوضاع والممارسات، مع أنها تمتلك أفضل العقائد والمبادئ والتعاليم الدينية؟! وأجاب بأننا عجزنا عن ترجمة هذه المبادئ على أرض الواقع، فبقيت معلقة في الفضاء المجتمعي، يحث عليها المفكرون، ولكن دون جدوى، وهذا يعني أن التسامح ليس فطرة يولد بها الإنسان، بل ممارسة عملية يتربى عليها الطفل في البيت والمدرسة والجامع والمجتمع، ولو تمكن "دعاة الكراهية" من مقاليد الأمور، فإن مستقبل التسامح سيكون مهدداً، وسيسعون إلى تفريغ المنطقة من كل الديانات والأقليات التاريخية، وسيلاحقون آخر مسيحي في المنطقة.

إن هذا المستقبل، مرهون بمدى استعداد مجتمعاتنا لتفكيك "ثقافة الكراهية".



آخر مسيحي في الشرق الأوسط

حسين شبكشي
جريدة الشرق الأوسط – العدد [13244] – الثلاثاء 3 مارس 2015

يبدو السؤال مشروعا ومنطقيا وواقعيا حين يطرح: هل نحن نعيش حقبة تفريغ الشرق الأوسط من سكانه وأهله وشعبه المسيحي بالكامل؟ مع تسلسل الأحداث الهمجية بشكل موتور وجنوني لا بد من طرح هذا السؤال. الأقلية المسيحية قلقة جدا، بل مذعورة ومضطربة، ولم يعد من الممكن الاكتفاء بمقولة إن الجماعات الإرهابية التكفيرية «يقتلون من المسلمين أعدادا أكبر» لأن هذا الأمر لا ينكر وجود خطاب عدائي وتحريضي واضح ضد الأقليات المسيحية، وبناء على «أرضية» هذا الخطاب تنمو وتكبر هذه الجماعات الإرهابية، ومن ثم تتحول إلى عملها الدموي.

تفريغ الشرق الأوسط من المسيحيين «مشروع» كبير شاركت في إنجازه أطراف مختلفة؛ كل يقوم بأداء دور محدد، ولكن النتيجة كانت الدفع المستمر لإخراجهم من المنطقة، فبعد تأسيس الحدود الجديدة للمنطقة بعد سقوط الخلافة العثمانية ورسم خريطة «سايكس - بيكو» البريطانية - الفرنسية، وجهت الدعوة وفرش البساط الأحمر لاستقبال الآلاف من المهاجرين المسيحيين إلى القارة الأوروبية والعالم الجديد في الولايات المتحدة وكندا وأميركا اللاتينية، وعقب ذلك كان الإعلان عن قيام دولة إسرائيل الذي بموجبه بدأت إسرائيل (مع حلفائها) في تسخير كل وسائل الإغراء والدعم والعون للمسيحيين الفلسطينيين للهجرة والمغادرة، وهذا ما تم عبر عقود من الزمن حتى بات عدد الجالية المسيحية الفلسطينية في تشيلي بأميركا اللاتينية يتجاوز الثمانين ألفا، وما يسري على تشيلي يسري على غيرها من مناطق ودول في القارة الجنوبية. وطبعا كان لظهور أنظمة حكم قمعية ديكتاتورية طاغية مثل صدام حسين في العراق والأسد في سوريا، الدور المهم والكبير في بسط وهيمنة الحكم على أرزاق الناس بحجة التأميم تارة وبحجة الفساد والمشاركة في الموارد والمال تارات أخرى، والأقليات المسيحية في مجملهم أصحاب مصالح اقتصادية مميزة ولم يستطيعوا تحمل هذا النوع من الضغط والمشقة، وآثروا بسبب ذلك الهجرة والرحيل.

وجاءت الحرب الأهلية اللبنانية في بلد يعتبر فيه الوجود المسيحي جزءا أساسيا وأصيلا ومهما في هوية البلد نفسه، لتكتب فعليا حدا فاصلا للأمان والتميز المسيحي فيه، ليجيء احتلال صريح واضح من نظام الأسد المجاور فقضى على الإرث المسيحي، وأهان رموز السياسة وقتلهم وشردهم وأجبرهم على الرحيل القسري وطارد أصحاب المال بالتهديد والإجبار على الشروط التي وضعها وفرضها عليهم، حتى الكنيسة المارونية لم تسلم من التدخل والتهديد والتسلط الأسدي عليها، وكانت أرقام الرحيل أبلغ دليل، وأفرغ بالتدريج لبنان من مسيحييه حتى بات اليوم يحكم من جماعة يمثلها حزب أصولي تكفيري إرهابي يقاد من بلد آخر يمنع فعليا انتخاب رئيس جديد مسيحي في بعبدا، ليجبر كل اللبنانيين على الاعتراف وقبول رئيس جديد من الضاحية!

المؤرخ اللبناني المتمكن القدير كمال ديب قالها بصريح العبارة في كتابه الجميل «وهذا الجسر العتيق»، حيث توقع بصريح العبارة أنه بحلول عام 2020 لن يتبقى أي مسيحي في لبنان، وهذه العبارة المخيفة يجب أن يستشعرها كل مسيحي في الشرق الأوسط اليوم لأن «أجراس الإنذار تقرع بقوة، وحملات الترويع مستمرة بحق المسيحيين الذين يجبرون على ترك مسقط رأس ديانتهم في الشرق الأوسط مهد السيد المسيح، فهو ولد بفلسطين وعمد بالأردن وزار مصر، وبالتالي لا يمكن إنكار وجود أصيل للمسيحيين في التاريخ العربي، بل إن قبائل وعشائر مثل المناذرة والغساسنة لها انتماء مسيحي لا يمكن الجدال فيه ولا إنكاره».

الجاليات المسيحية الموجودة في شمال أفريقيا ومصر والسودان والأردن ولبنان وسوريا والعراق والكويت والبحرين، والحاملة لجنسيات هذه الدول، يجب تسخير كل الإمكانات للحفاظ والإبقاء عليها، ليس إرضاء لصورتنا أمام الغرب، كما يردد السذج والمسطحة عقولهم، ولكن لأن الدين الإسلامي نفسه وسيرة الهادي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، أمرانا بذلك، فلا يمكن أن أنكر السيرة النبوية وآخذ بآراء شاذة، كما يحصل الآن.

تفريغ الشرق الأوسط من المسيحيين (كما حصل وتم تفريغ اليهود من الدول العربية من قبل) ليس في مصلحة العرب ولا المسلمين، لأن فيه دليلا صريحا ودامغا وحقيقيا على عدم قدرتنا على التعايش مع الغير المخالف لديننا، وهو على عكس ما نردده ليلا ونهارا. بقي أن نثبت ذلك بشكل جاد وعملي، وإن كنت أخشى على قدرتنا في تنفيذ ذلك الأمر، فعدم قدرتنا على التعايش كمسلمين بعضنا مع بعض سيجعل من المهمة المطلوبة المقلقة بالتعايش مع الأديان الأخرى، أشبه بالمستحيلة، إلا أنني أراهن على التاريخ غير البعيد، وقت كان ذلك كله حقيقة، والتسامح والتعايش واقعا يعيشه الناس ويحكون عنه قبل خروج «جني» التشدد والإرهاب.




ما أحوجنا إلى "التسامح"

د. عبدالحميد الأنصاري
جريدة الجريدة – الاثنين 23 فبراير 2015

ما أحوجنا، في هذه الأيام المريرة، إلى تكاتف جهودنا، لنشر وتعزيز "قيم المحبة" و"ثقافة التسامح" في مجتمعاتنا الخليجية والعربية والإسلامية التي تواجه موجات متصاعدة من ظواهر التعصب والكراهية والتطرف العنيف واللدد في الخصام والغلو في التشفي والانتقام، ما أشد حاجتنا في هذه الأوقات العصيبة إلى تجديد طاقاتنا النفسية والوجدانية بالاستماع والإنصات إلى هذه الآيات العذبة من كتاب الله تعالى، تحمل النسمات اللطيفة إلى أرواحنا، وتخفف من معاناتنا.... يقول المولى تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا).

 ما أجملها آية تغذي الروح والوجدان، محبة وتسامحاً، ثم أنصت ملياً إلى هذه الآية التي تسلب اللب روعة "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، وأرهف حواسك خاشعاً لقوله تعالى "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا" "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، وأنى تجد محفزاً على التسامح مثل كتاب الله تعالى "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)؟

عجبت - طويلاً - لأمة هذا كتابها، التسامح والبر والإحسان، وتحيتها السلام، ورسولها، عليه الصلاة والسلام، رحمة للإنسانية جمعاء، جاء متمماً لمكارم الأخلاق، كيف لا تترسخ قيم المحبة والتسامح بين جنباتها؟!

إننا في هذه الأيام، أكثر احتياجاً إلى تكريس "ثقافة التسامح" في مجتمعاتنا وسلوكياتنا وعلاقاتنا، أصبح بأسنا بيننا شديداً، طروحات الكراهية والتعصب والعنف تنامت في مجتمعاتنا وصارت تستهوي أفئدة من شبابنا، إننا اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة شحن طاقات شبابنا بقيم التسامح وقبول الآخر وحب البناء والتنمية والإنتاج والإبداع كبقية شباب العالم الذين يتنافسون في ميادين الإنجاز والابتكار والاكتشاف وخدمة الإنسانية، لقد طغى دعاة الكراهية وخطفوا عقول بعض شبابنا وجندوهم لمشاريع الهدم والقتل والترويع والتلذذ بحرق الأسرى وقطع رؤوسهم!

إننا اليوم بحاجة شديدة إلى ترسيخ "إنسانية" ديننا وعلو قيمه وسمو مبادئه في مواجهة هؤلاء الذين انتهكوا كل المقدسات واخترقوا كل الثوابت الدينية وأهدروا كل الكرامات الإنسانية.

في تصوري أن البداية الحقيقية لغرس "قيم التسامح" تكون في البيت، الأسرة الصغيرة، في تسامح الأبوين بعضهما مع بعض، وفي تسامح الأولاد مع بعضهم ومع جيرانهم وأصدقائهم ومع الخدم في البيت، في تربيتهم على "ثقافة التسامح" وتعويدهم عليها كسلوك مكتسب، في تشجيعهم على الاطلاع على الثقافات الأخرى، وعلى الفنون والآداب والموسيقى، فهذه تهذب سلوكياتهم وتسمو بنفسياتهم.

 وتتعزز "ثقافة التسامح" عبر مؤسسة التعليم، فيكون المعلم، نموذجاً متسامحاً لطلابه ولزملائه، ثم تتوطد هذه الثقافة عبر منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والتوجيهية والثقافية والإعلامية وغيرها، ثم إن للدولة، دورها الكبير في نشر وتعزيز "ثقافة التسامح" عبر علاقة أجهزة الحكومة بالناس، بتقيدها بالتشريعات التي تصدرها وعدم تجبرها وتغولها على الحقوق والحريات، لا ينبغي للدولة أن تخاصم مواطنيها - تعنتاً - في طلب حق أو مصلحة مستحقة، ثم إن الدولة العربية في علاقتها، بأختها الدولة العربية أو الإسلامية، عليها أن تراعي قيم الأخوة والتسامح في العلاقات، حتى لا تنعكس سلباً على العلاقات بين الشعبين.

 صحيح أن علاقات الدول تقوم على المصالح، وليس القيم والأخلاق، ولكن قرآننا يوجهنا "وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ"، لذا على الدولة أن تتسامح - سياسياً ودينياً واجتماعياً - بين مكوناتها المجتمعية من دون إقصاء أو تمييز أو تهميش لأقلية أو طائفة بسبب معتقداتها أو دينها أو مذهبها أو قوميتها أو جنسها، ولعلماء ورجال الدين دورهم البارز في ترسيخ التسامح في نفوس الناس، وللمجتمع وكتابه ومثقفيه وإعلامييه، دورهم أيضاً...

 لابد أن نعمل جميعاً على غرس شجرة التسامح في التربة المجتمعية ونتعهدها بعوامل النماء والازدهار، بالتربية المتسامحة، بالتعليم المنفتح، بالتثقيف المعزز لحقوق الإنسان وكرامته، حتى تصبح قيمة التسامح، قناعة من قناعات المجتمع والدولة، تجسدها سلوكيات أفراد المجتمع وتعكسها تشريعات وسياسات الدولة، لا جدوى من التغني بقيم التسامح والمحبة ولا جدوى من الخطب والمواعظ الحماسية ولا الأناشيد والشعارات ولا الفخر والتباهي بأن حضارتنا الإسلامية كانت متسامحة مع الأقليات الدينية؛ فكل ذلك لن يجدي ولن يثمر شيئاً إذا كانت البيئة المجتمعية والوقائع على الأرض، والعلاقات بين الناس والدولة، قائمة على التمييز وعدم الإنصاف، لا قيمة للتسامح في مجتمع، يعاني فيه بعض مكوناته، هضماً لحقوقه.


التسامح سلوك اجتماعي مكتسب، يأتي كمحصلة أو نتيجة لثقافة عامة سائدة في المجتمع ولا يولد الإنسان متسامحاً أو كارهاً، ولكن المجتمع عن طريق الأبوين يبدآن بغرس مفهوم التسامح في وجدان الطفل، ليؤكده المعلم في مدرسته بسلوكه، ثم يعززه الشيخ في جامعه ثم يفعله المجتمع بمؤسساته ومنظماته... "التسامح" ضرورة حياتية لمجتمعاتنا، من أجل استعادة توازنها النفسي والفكري والاجتماعي والسياسي وأيضاً من أجل استعادة "تحصينها" و"مناعتها" من أفكار التطرف.



هل أكره زوجتي «الكتابية»؟!

د. عبدالحميد الأنصاري
جريدة الاتحاد –  الأربعاء 31 ديسمبر 2014
في هذه الأيام، ومع اقتراب احتفال المسيحيين بعيد ميلاد السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، واحتفال العالم بعيد رأس السنة الميلادية، ينشط دعاة ووعاظ، هنا وهناك، عبر المنابر الدينية والإعلامية والمواقع الإلكترونية، محذرين منفرين المسلمين من المشاركة في هذه الاحتفالات أو حتى مجرد تهنئة غير المسلمين، بحجة أن هذا العمل نوع من الموالاة المنهي عنها شرعاً، بالنص القرآني «لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء» وينقلون فتاوى تحرم المشاركة والتهنئة، بل وتوجب بُغض غير المسلمين! بعث لي صديق شريطاً مصوراً (فيديو) لرمز ديني معروف في مصر، يخطب في حشد من أنصاره، مفسراً آيات من سورة «الممتحنة» فقال لا فض فوه، متفاخراً متعالماً، لماذا قال الله تعالى في أول السورة: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدكم أولياء تُلقون إليهم بالمودّة»، ثم قال في الآية التاسعة «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تَبرّوهم وتُقْسطوا إليهم»، كيف يُحرّم علينا «مودتهم» ويبيح لنا «البِرّ» بهم؟! وتصور هذا الداعية أنه سيحل لغزاً استعصى على الناس، فقال: نعم هناك فرق بين «المودّة» و«البرّ»، المودّة: عمل قلبي، والبرّ: عمل الجارحة وحدها -أحياناً- وظن أنه حل الإشكالية بقوله: عليك أن تبغض غير المسلم بقلبك، ولا حرج عليك في أن تُحسن معاملته!!

هذا الشيخ بذا الفهم، هو وأمثاله، كُثر، ولو تواضعوا قليلاً، وقالوا هذا رأينا، ولا حرج على الرأي المخالف، لما كان في الأمر إشكال، ولكنهم يرون أن رأيهم هو الإسلام بعينه، وهذا مكمن الخطر، لأنه يزرع «ثقافة الكراهية» ويرسّخها في البنية التحتية للفكر العنيف، والتي في النهاية تنتج المتطرفين والإرهابيين. هل ما قاله الشيخ يتفق والمنهج الاستدلالي الشرعي لتفسير القرآن؟! دعونا نرجع إلى السورة:

1-  بالرجوع إلى أول سورة الممتحنة يقول تعالى: «يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، تُلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يُخرجون الرسول وإياكم، أن تؤمنوا بالله ربكم..».
واضح من هذه الآيات، أنها لا علاقة لها بأهل الكتاب، تتحدث الآيات عن مشركي قريش الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وعادَوه وحاربوه، لمجرد أنهم «آمنوا بربهم»، فمن الطبيعي أن يأتي القرآن محذراً المسلمين، من مودة قوم -ظهرت عداوتهم- بدافع القرابة، أو العصبية القبلية، مما قد يُسرّب أخبار المسلمين للمعسكر المعادي، وهذا حاصل عند المسلمين وغير المسلمين، كيف تَود من يعاديك؟! وأنت لو أكملت تلاوة بقية الآيات، لتأكدت أن القضية هنا قضية (تأمين معسكر المسلمين) من مكائد أعدائهم، فبقية الآية تقول: «تسرُّون إليهم بالمودة، وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السبيل» ثم يُعلل ما نهاهم عنه «إن يقفوكم يكونوا لكم أعداء، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء..» القضية إذن واضحة: يا أيها المسلم: لا يكن دافع المودة، مبرراً لتسريب الأسرار إلى العدو، فإن الله تعالى مُطّلع على ذلك.

2- أما الآية التاسعة (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين)، فواضحة وضوح الشمس، لا حرج عليك أيها المسلم في أن تعامل غير المسلم، أسمى أنواع المعاملة، وهي «البرّ» ما دام مسالماً غير معادٍ لك.. يقول دعاة الكراهية: كن باراً بهم لكن اضمر كراهيتهم في قلبك! أي كن في شخصيتك، ظاهرك غير باطنك، وهذا أسوأ أنواع التوجيه التربوي، كيف أربي ابني على هذه الازدواجية السيئة؟ إن من لوازم البر المودة، لأنك السلوك يترجم عمل القلب وسابق له، ثم كيف يتقبل الله عملاً بنيّة فاسدة، وكيف يأمر به، وكيف يسميه براً؟!

3-  كيف يمنعني القرآن الكريم أن أبذل الود لغير المسلم وهو القائل: (ولتجدنَّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى)، عجباً أنكون أقل إنصافاً وإنسانية منهم، يُوادوننا فنكارههم؟! من قال هذا؟!

4-  إذا كان على المسلم إضمار الكراهية والبغض لغير المسلم، فلماذا أباح القرآن لي الزواج من الكتابية التي تصبح أم أولادي فيما بعد؟!

هل عليّ أن أكره زوجتي -في قلبي- وأنا أعاشرها؟ أي منطق أو عقل هذا؟ وكيف يستقيم الكُره والبغض مع الوصف القرآني للعشرة الزوجية «وجعل بينكم مودة ورحمة»، ثم هل عليّ أن أعلّم أولادي كراهية أمهم لأنها كتابية؟! هذا منطق غريب لم يقل به أحد في العالمين!


5- كيف أُربي أولادي على بغض من اخترعوا واكتشفوا وساهموا في إسعاد البشرية وتسهيل حياة الناس ومعالجة أمراضهم، وكما قالت أم في رسالة إلى إحدى الصحف تشتكي من حشو ذهن ابنتها وهي لم تتجاوز الثامنة، ببغض غير المسلمين، في المنهج المقرر على الصف الثالث الابتدائي في إحدى الدول العربية: هل يريدونني أن أبغض العالم اليهودي الذي اكتشف الأنسولين الذي يعيش عليه الكثيرون وأولهم أمي؟! هل أبغض الذي اكتشف دواء الملاريا وأنقذ ملايين البشر؟ هل أُعلّم ابنتي بغض «أديسون» مكتشف المصباح الذي أنار العالم؟ هل أكره العبقري الذي اخترع «المكيف» وأنقذنا من نار الحر والرطوبة؟! ما لكم كيف تحكمون؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق