ثقافة التسامح طريقنا نحو المستقبل


ثقافة التسامح طريقنا نحو المستقبل


لم يعد المدافعون عن مفاهيم التسامح والتعايش في العالم عموما وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص في حاجة لوضع ديباجات تبريرية أو مقدمات مطولة لشرح أهمية التسامح والتقارب بين الثقافات والشعوب، ومدى حاجة عالم اليوم إلى تفعيل عملية التحاور والتعايش مع الآخر وتطويره من حالة نخبوية إلى فعل اجتماعي عام ينخرط فيه الجميع على كافة المستويات. فنظرة سريعة لما يدور من صراعات وتحديات في المنطقة وما تسيل من دماء بريئة في عدد ليس بقليل من مدن وعواصم الشرق الأوسط لا تبرهن على مدى حاجتنا للتحاور وتعلم فضيلة التعايش والتسامح فحسب، بل ويرّسم لنا صورة واضحة المعالم لما يفرزه الانغلاق الفكري وثقافة الانعزال ورفض الآخر.

كثيرا ما يطرح في عالمنا العربي سؤال مهم حير العديد من المتابعين، كيف كان أن عشنا معا رغم اختلاف ثقافاتنا ومذاهبنا ومعتقداتنا وأيدولوجياتنا وأعراقنا؛ نتقاسم الأحلام والآمال المشتركة ولقمة العيش، ونتخالط ونتجاور بل ونتزاوج وتزدهر فيما بيننا التبادلات التجارية والعلاقات الثقافية وتنقلات العمل والسياحة والدراسة لعقود طويلة من الزمن دون أن نشعر باختلاف أو نتخوف من التنوع؟ ولماذا أصبحت مجتمعاتنا اليوم رغم التقدم وتطور التعليم أقل تقبلا للآخر وأكثر حدة وتشنجا في الكلام، ولماذا أصبح الكثير منا نزاعا للخصام والشقاق ورافضا للتسامح والوفاق؟ رغم أن المكونات الثقافية هي ذاتها لم تتغير، والنصوص الدينية لم تختلف وتفاسيرها المتوارثة لم تتحول.

ما لم ندركه هو أن حالة التقارب والتقبل والهدوء تلك لم تكن نتاج رغبة صادقة في التعايش وتقبل الاختلاف بقدر ما كانت نتيجة الجهل بوجود هذا التباين والاختلاف. فالمجتمعات كانت على سجيتها وفطرتها النقية غير عابئة بالتباين والتنوع والاختلافات، وعامة الناس لم يكونوا مطلعين على ما يحمل موروثهم من رؤى وتفاسير بشرية مقدِّسَة للذات ورافضة للآخر ومسفّهة لكل فكر مختلف.   جهل المجتمعات للتباين فيما بينها والفجوة بين النخب المتعصبة وعامة أبناء هذه المجتمعات خلق عوازل غير مرئية امتصت إلى حد بعيد الوحشة والخوف والكراهية والريبة بين المجتمعات والمكونات والمعتقدات والثقافات على مستوى شعوب العالم وكذلك ضمن المجتمع الوطني الواحد.

إلا أن التطور الطبيعي للعلم والمعرفة والتقنية وضع العالم أمام تحد جديد قلب الكثير من الموازين. فقد جاءت العولمة الثقافية لتزيل الحواجز والمسافات الثقافية فيما بيننا وتجعلنا نقف متقابلين متقاربين نرى اختلافات وعيوب وعورات بعضنا البعض، فنصدم لما لم نكن نتخيل وجوده.  ومن جانب آخر ساهمت التقنية و وسائل الارتباط الحديثة بتحويل المعلومة إلى سلعة متوفرة في متناول الجميع، فأصبحت الأفكار والرؤى والنصوص التي كانت إلى زمن قريب محصورة في صوامع رجال الفكر والدين يديرون بها صراعاتهم الفكرية، مشاعة للجميع شيبا وشبابا متعلمين وغير متعلمين فأثرت سلبا على الفطرة السوية لأبناء هذه المجتمعات وزجت بهم في صراعات عبثية.

الحقيقة المرة هي أن مجتمعاتنا كانت تقوم بالشيء ونقيضة في ذات الوقت. فمن جهة نتعايش ونتعامل بل ونتزاوج مع الآخر المختلف، ومن جهة أخرى نقدس أسماء وافكاراً تنظّر وتدعو لنبذ الآخر وترك التعايش والتسامح. ازدواجية في المعايير لا يمكن لها أن تستقيم أو تستمر طويلا، والنتيجة ما تمر به منطقتنا اليوم من مخاض مؤلم وعسير.

ما لا ينبغي تجاهله هو أن المجتمعات المتوترة والحاضنة للتعصب تعتبر بيئة مثالية لنمو فيروسات التطرف وتكاثر الفكر الدموي والكره العنيف. كما أنها تفتح المجال لكل من يريد تدمير هذه المجتمعات ليستغل هذه التوترات والتعصبات لبث سموم الفتنة وتأجيج نار العصبية والتطرف. فما من علاج يزيد مناعة المجتمعات ضد النوايا المبيّتة والمساعي المدمرة أكثر من ازكاء روح التسامح واحياء ثقافة التعايش بين مختلف مكونات المجتمع. 

على رجال الفكر والتربية والإعلام أن يقدموا لمجتمعاتهم ما يتطابق وروح "مكارم الأخلاق"، ويعزز حالة " تَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى" ويؤصل مفهوم " وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا".   كما أن على رجال الدين من مختلف الأطياف والمذاهب أن يعيدوا قراءة موروثهم وكتبهم ونصوصهم في ظل معطيات العصر ليستخرجوا منها ما يناسب هذه المرحلة من الحياة البشرية.  

التحدي الذي يواجه مجتمعاتنا اليوم دخل من بوابة الدين وتلحف بعباءة المذهب وما من أحد يستطيع أن يفك شيفرة قنابل تطرفه الموقوتة غير رجال الدين الصادقين المخلصين. رجال الدين والفكر والإعلام مطالبون بإعادة المجتمع إلى فطرته النقية وأن يعززوا ثقافة التسامح والمحبة ويكونوا نماذج للمواطنة الحقيقية؛ فالوقت لا يسير في صالحنا والتاريخ لن يغفر لكل من يحمل في يده العلاج ويختار أن يجلس في مقاعد المتفرجين.

ممدوح الروحاني

صحيفة الرياض 



هناك تعليقان (2):

  1. مقالة رائعة تلمست واقع المشكلة في المنطقة

    ردحذف
  2. فعلا التسامح هو الطريق إلى المستقبل

    ردحذف