بحرين الحبيبة


بحرين الحبيبة

العيد الوطني لمملكة البحرين هذه السنة ليس مجرد ذكرى جميلة لتاريخ عزيز على قلوب كل من يحب البحرين، بل يحمل في جعبته هذه المرّة دلالات أكبر وأهم ليس على المستوى المحلي فحسب بل على المستوى الإقليمي أيضا. فقد جاء العيد الوطني الثالث والأربعون بعد احتفالية انتخابية هامة شهدت مشاركة شعبية جديرة بالتقدير، أوصلت 40 نائبا يمثلون معظم أطياف المجتمع البحريني إلى مقاعد البرلمان، إيذانا بدورة نيابية جديدة في مرحلة تاريخية مفصلية في المنطقة وتضع على كاهل أعضائها الجدد وكل أبناء البحرين الحبيبة مسئوليات هامة وجسيمة.

العيون اتجهت كلها إلى البحرين لتتابع باهتمام بالغ كيف سيتفاعل البحرينيون مع استحقاقهم الانتخابي، وكيف سيحتفلون بعيدهم الوطني استعدادا لاستقبال عام جديد في مسيرة البحرين.  نظرة سريعة للمنطقة من حولنا تبيّن سر هذا الاهتمام البالغ.  فسوريا الحضارات يحتضر تاريخها في براثن حرب طائفية لا تبقي ولا تذر، ولوحة الفسيفساء العراقية رائعة التنوع والجمال تحطمت واصبح كل طيف فيها يصيح نفسي نفسي، وبيروت التمدن والحريات عجزت ان تتجاوز ألف باء الانتخابات الديمقراطية، وسيناء النقاء والطيبة يتصاعد منها دخان بارود التشدد، والكويت التي سبقت الخليج بتطورها المادي والاجتماعي أصبحت مكبلة بصراعات طائفية تحت قبة ديمقراطيتها، ايران التي لطالما تغنت بتنوعها القومي والديني تنزف أقلياتها بفعل اضطهاد منهجي طائفي لا يهدأ، ويمن الحكمة والإيمان تائه في دوامة مجنونة من الصراعات، وحتى الاحساء واحة النخل والمحبة والسلام نزفت دالوتها لتذكرنا بأن الصراع الفكري والطائفي أصبح عابرا للحدود.  بحرين الحبيبة نفسها والتي لطالما كانت أبهى نموذجٍ للتعايش في منطقة الخليج عانت هي الأخرى في السنوات الأخيرة من النعرات الطائفية ونزفت بسببها.  لذا كان من المهم للجميع – داخل البحرين وخارجها – متابعة مدى تأثّر المجتمع البحريني بهذه الصراعات، ومدى انعكاس الوضع الإقليمي على واقعها المحلي؛ وقياس مقدار تأثير هذه الأحداث على الطبيعة المسالمة والنزّاعة للتعايش والتسامح داخل النسيج الاجتماعي البحريني.

جاءت نتائج الانتخابات واحتفالات عيد الوطن لتعلن بأن البحرين قد كسبت الرهان، وأن الفطرة السليمة لمجتمعها تفوق على الطفرات الطائفية الطارئة.  إلا أنه من المهم أن نتذكر بأن التفاعل الإيجابي للمجتمع البحريني مع الانتخابات والعيد الوطني ليس نهاية القصة بل مجرد بدايتها.  فأمام الناخب والمنتخب مسئوليات هامة لبناء المستقبل وتعزيز روح التعايش والتسامح، وفتح صفحة جديدة لمستقبل أكثر اشراقا.

منذ أيام كنت أسير في الطرق الضيقة والأزقة العتيقة للمنامة القديمة، أمتع حواسي بعبق ذلك التاريخ الجميل واحاول أن استرجع ذكريات مرحلة لم أعشها ولكن سمعت عنها الكثير إلى أن عشقتها.  نظرت من حولي مليا ثم اغمضت عيني ليطير بي الخيال مع نسيم الشتاء العليل المعطر برائحة البهار والطيب البحريني إلى ذلك الزمن البعيد، قبل أكثر من نصف قرن حيث كانت البحرين تستعد لتبدأ فصلا جديدا من تاريخها الحديث. هناك كان السوق المسقف حيث تختلط أصوات الباعة بأحاديث المتسوقين، بينما يتباحث عدد من التجار حول كيفية تطوير تجارة البحرين. في الزقاق الخلفي يستضيف الشيخ جعفر في مجلسه عددا من أعيان ومشايخ المحرق ليتبادلوا الحديث حول آمال وأحلام المستقبل. وفي امتداد شارع باب البحرين يزور الشيخ راشد المأتم الكبير لمشاركة اشقائه الشيعة احتفالاتهم.  في شارع دلي (الزبارة حاليا) تلوح منارة كنيسة القلب المقدس بعمارتها الجميلة، ويسمع صوت ضحكات أصدقاء يخرجون من سينما "الوطني" متجهين إلى سور المقبرة السنية حيث بَسطَة العم جاسم لشراء "الباجله" الساخنة وهم يتسامرون حول كيفية تحويل مدينتهم إلى عاصمة مالية كتلك التي يرونها في الأفلام.  في السوق تزور فاطمة صيدلية "يتيم" أول صيدلية في البحرين وهي تقول لنفسها سأكون أول طبيبة في بلدي، وفي المدرسة المجاورة تجيب عائشة على سؤال أستاذتها "حلمي أن أكون أول أستاذة جامعية في البحرين". في إحدى المقاهي الشعبية بشارع التليغراف يستمع البحريني اليهودي إبراهيم فون أحد رواد تسجيل الأسطوانات بالبحرين إلى عزف وغناء شاب يافع ليختبر صوته وهو على ثقة بأنه قد اكتشف نجما جديدا في سماء الفن العربي. في سوق الطواويش يخرج التاجر البحريني الشاب من المعبد الهندوسي متجها إلى فندق البحرين لمقابلة الوفد الأجنبي المهتم بالاستثمار هنا؛ وفي جانب آخر من المدينة تفوح رائحة البخور من بيت القصيبي الذي يستقبل عدداً من تجار اللؤلؤ من دول الخليج؛ بينما يلوح في الأفق الأستاذ فيضي البهائي حاملا أوراق دروسه وهو يتقاسم الحديث والابتسامة مع عدد من طلابه من الراغبين في تعلم اللغة الإنجليزية يحثهم على الدراسة في أفضل جامعات العالم ويحدثهم عن البحرين التي سيبنون بعلمهم وسواعدهم.

فتحت عيني وانتهت رحلتي عبر الزمن وعدت إلى ديسمبر 2014 واقفا أمام باب البحرين أيقونة تاريخها الجميل. أجمل ما رأيت في رحلتي القصيرة عبر تلك الحقبة من تاريخ البحرين هو روح التعايش والتآلف بين أهل البحرين رغم تنوع الأفكار والمشارب والمذاهب والأعراق. روح إنسانية عالية وفطرة إيمانية سليمة ومحبة صادقة للبحرين وأهلها تستوجب كل الثناء والاحترام، وتستحق بناء نصب يرمز إلى حالة التعايش وروح التسامح البحريني بجوار بابها العتيق. ذلكم هو الارث الذي يجب أن نحافظ علية وتلك هي التجارة الرابحة التي ورثناها لبناء المستقبل.

اليوم على جميع الأعضاء المنتخبين للمجلس بل وكافة أفراد المجتمع البحريني باختلاف أطيافه ومكوناته أن يدركوا بأنهم يحملون نفس الأمانة وذات المسئولية التاريخية الجسيمة. علينا جميعا أن نترفع عن مهاترات التعصبات ونعزز روح التعايش والتسامح والإخاء، ونعمل معا يدا بيد من أجل بحرين المستقبل بروح تتناسب واحتياجات العصر، ورؤية تصبو نحو الأفضل للأجيال القادمة. 

كل عام وبحرين الحبيبة بألف ألف خير

ممدوح الروحاني
مستشار وباحث في اقتصاديات الإعلام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق